فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الطبري:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)}.
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيُّهم صلى الله عليه وسلم أنه حق من عند الله: {لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم}، يعني بـ «الطيبات»، اللذيذات التي تشتهيها النفوس، وتميل إليها القلوب، فتمنعوها إيّاها، كالذي فعله القسِّيسون والرُّهبان، فحرَّموا على أنفسِهم النساءَ والمطاعمَ الطيَّبة، والمشاربَ اللذيذة، وحَبس في الصَّوامع بعضُهم أنفسَهم، وساحَ في الأرض بعضهم. يقول تعالى ذكره: فلا تفعلوا أيُّها المؤمنون، كما فعل أولئك، ولا تعتدُوا حدَّ الله الذي حدَّ لكم فيما أحلَّ لكم وفيما حرم عليكم، فتجاوزوا حدَّه الذي حدَّه، فتخالفوا بذلك طاعته، فإن الله لا يحبُّ من اعتدى حدَّه الذي حدّه لخلقه، فيما أحل لهم وحرَّم عليهم.
واختلفوا في معنى «الاعتداء» الذي قال تعالى ذكره: {ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبُّ المعتدين}.
فقال بعضهم: «الاعتداء» الذي نهى الله عنه في هذا الموضع: هو ما كان عثمان بن مظعون همَّ به من جَبِّ نفسه، فنهى عن ذلك، وقيل له: «هذا هو الاعتداء».
وقال آخرون: بل ذلك هو ما كان الجماعةُ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هَمُّوا به من تحريمِ النساء والطعام واللباس والنوم، فنهوا أن يفعلوا ذلك، وأن يستَنَّوا بغير سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: بل ذلك نهيٌ من الله تعالى ذكره أن يتجاوَزَ الحلالَ إلى الحرام.
وقد بينا أن معنى «الاعتداء»، تجاوز المرءِ ماله إلى ما ليس له في كل شيء، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.
قال أبو جعفر: وإذ كان ذلك كذلك وكان الله تعالى ذكره قد عمَّ بقوله: {لا تعتدوا}، النهيَ عن العدوان كُلّه كان الواجبُ أن يكون محكومًا لما عمَّه بالعُموم حتى يخصَّه ما يجب التسليم له. وليس لأحدٍ أن يتعدَّى حدَّ الله تعالى في شي من الأشياء مما أحلَّ أو حرَّم، فمن تعدَّاه فهو داخل في جملة من قال تعالى ذكره: {إن الله لا يحب المعتدين}.
وغير مستحيل أن تكون الآية نزلت في أمر عثمان بن مظعون والرهطِ الذين همُّوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما همُّوا به من تحريم بعض ما أحلّ الله لهم على أنفسهم، ويكون مرادًا بحكمها كلُّ من كان في مثل مَعْناهم ممَّن حرّم على نفسه ما أحلَّ الله له، أو أحلَّ ما حرّم الله عليه، أو تجاوز حدًّا حدَّه الله له. وذلك أن الذين همُّوا بما همُّوا به من تحريم بعض ما أحلَّ لهم على أنفسهم، إنما عوتبوا على ما همُّوا به من تجاوزهم ما سَنَّ لهم وحدَّ، إلى غيره. اهـ. باختصار.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} فيه تأويلان:
أحدهما: أنه اغتصاب الأموال المستطابة، فتصير بالغصب حرامًا، وقد كان يمكنهم الوصول إليها بسبب مباح، قاله بعض البصريين.
والثاني: أنه تحريم ما أبيح لهم من الطيبات، وسبب ذلك أن جماعة من أًصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علي، وعثمان بن مظعون، وابن مسعود، وابن عمر، هموا بصيام الدهر، وقيام الليل، واعتزال النساء، وجَبِّ أنفسهم، وتحريم الطيبات من الطعام عليهم، فأنزل الله تعالى فيهم {لاَ تَحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُم}.
{وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحبُّ الْمُعْتَدِينَ} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: لا تعتدوا بالغصب للأموال التي هي حرام عليكم.
والثاني: أنه أراد بالاعتداء ما هَمَّ به عثمان بن مظعون من جبِّ نفسه، قاله السدي.
والثالث: أنه ما كانت الجماعة هَمَّت به من تحريم النساء والطعام، واللباس، والنوم، قاله عكرمة.
والرابع: هو تجاوز الحلال إلى الحرام، قاله الحسن. اهـ.

.قال الألوسي:

{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} أي لذائذ ذلك وما تميل إليه القلوب منه كأنه لما تضمن ما سلف من مدح النصارى على الرهبانية ترغيب المؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات عقب سبحانه ذلك بالنهي عن الإفراط في هذا الباب أي لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، وقيل: لا تلتزموا تحريمها بنحو يمين، وقيل: لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدًا منكم، وكون المعنى لا تحرموها على غيركم بالفتوى والحكم مما لا يلتفت إليه. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} يحتمل وجوهًا:
أحدها: لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله تعالى لكم.
وثانيها: لا تظهروا باللسان تحريم ما أحله الله لكم.
وثالثها: لا تجتنبوا عنها اجتنابًا شبيه الاجتناب من المحرمات، فهذه الوجوه الثلاثة محمولة على الاعتقاد والقول والعمل.
ورابعها: لا تحرموا على غيركم بالفتوى.
وخامسها: لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {عِلْمَا يا أيها النبي لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1].
وسادسها: أن يخلط المغصوب بالمملوك خلطًا لا يمكنه التمييز، وحينئذٍ يحرم الكل، فذلك الخلط سبب لتحريم ما كان حلالًا له، وكذلك القول فيما إذا خلط النجس بالطاهر، والآية محتملة لكل هذه الوجوه، ولا يبعد حملها على الكل والله أعلم. اهـ.
وقال الفخر:
قوله: {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} [البقرة: 190] فيه وجوه:
الأول: أنه تعالى جعل تحريم الطيبات اعتداءً وظلمًا فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها، والثاني: أنه لما أباح الطيبات حرم الإسراف فيها بقوله تعالى: {وَلاَ تَعْتَدُواْ} ونظيره قوله تعالى: {كُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا} [الأعراف: 31] الثالث: يعني لما أحل لكم الطيبات فاكتفوا بهذه المحللات ولا تتعدوها إلى ما حرم عليكم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَلاَ تَعْتَدُواْ} يقول: يعني: لا تحرموا حلاله، {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين}.
ويقال: إن مُحَرِّم ما أحل الله كمُحِلِّ ما حرم الله. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله تعالى: {وَلاَ تَعْتَدُواْ} تأكيد للنهي السابق أي لا تتعدوا حدود ما أحل سبحانه لكم إلى ما حرم جل شأنه عليكم أو نهى عن تحليل الحرام بعد النهي عن تحريم الحلال فيكون تأسيسًا.
ويحتمل أن يكون نهيًا عن الإسراف في الحلال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ومجاهد وقتادة أن المراد لا تجبوا أنفسكم ولا يخفى أن الجب فرد من أفراد الاعتداء وتجاوز الحدود والحمل على الأعم أعم فائدة.
وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} في موضع التعليل لما قبله.
وقد تقدمت الإشارة إلى أن نفي محبة الله سبحانه لشيء مستلزم لبغضه له لعدم الواسطة في حقه تعالى. اهـ.

.قال في البحر المديد:

الإشارة: طريقةُ العباد والزهاد: رفض الشهوات والملذوذات بالكلية، زهدًا وورعًا وخوفًا من اشتغال النفس بطلبها، فيتعطل وقتهم عن العبادة، وطريقة المريدين السائرين: رفض ما تتعلق به النفس قبل الحصول، وتشره إليه رياضة وتعففًا، لئلا تتعلق هِممُهم بغير الله، فما جاءهم من غير طلب ولا شره أكلوه وشكروا الله عليه، ولا يقفون مع جوع ولا شبع. وطريقة الواصلين العارفين: تجنب ما يقبض من غير يد الله، فإذا أخذتهم سنة حتى غفلوا عن التوحيد فقبضوا شيئًا، مع رؤية الواسطة، أخرجوه عن ملكهم، كما وقع لأبي مدين رضي الله عنه ويأخذون ما سوى ذلك قَلّ أو كثر، ولا يقفون مع أخذ ولا ترك، وفي الحكم: «لا تمدن يديك إلى الأخذ من الخلائق، إلا أن ترى أن المعطي فيهم مولاك، فإن كنت كذلك فخذ ما وافقك العلم». اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)}.
من أمارات السعادة الوقوفُ على حد الأمر؛ إنْ أَبَاحَ الحقُّ شيئًا قَبِلَه، وقابله بالخشوع، وإنْ خَطَرَ شيئًا وقف ولم يتعرض للجحود.
ومما أباحه من الطيبات الاسترواح إلى نسيم القرب في أوطان الخلوة، وتحريم ذلك: إنْ اسْتَبدَلَ تلك الحالة بالخلطة دون العزلة؛ والعِشْرَةِ دون الخلوة، وذلك هو العدوان العظيم والخسران المبين. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا}.
فيه خمس مسائل:
الأُولى أسند الطَّبَريّ إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم؛ فأنزل الله هذه الآية.
وقيل: إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعليّ وابن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذَرّ الغِفَاريّ وسالم مولى أبي حُذَيفة والمِقْدَاد بن الأسود وسَلْمان الفارسيّ ومَعْقِل بن مُقَرِّن رضي الله عنهم، اجتمعوا في دار عثمان بن مَظْعُون، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الوَدَك ولا يَقْربوا النّساء والطيب، ويلبسوا المسُوح ويَرفضوا الدنيا ويَسيحوا في الأرض، ويتَرهبوا ويَجُبُّوا المذاكِير؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والأخبار بهذا المعنى كثيرة وإن لم يكن فيها ذكر النزول وهي:
الثانية خرّج مسلم عن أنس أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السِّر؛ فقال بعضهم: لا أتزوّج النّساء؛ وقال بعضهم: لا آكل اللحم؛ وقال بعضهم: لا أنام على الفِراش؛ فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بَالُ أقوام قالوا كذا وكذا لكنّي أُصلِّي وأنام وأصوم وأفطِر وأتزوّج النّساء فمن رَغِب عن سُنّتي فليس مني». وخرّجه البخاريّ عن أنس أيضًا ولفظه قال: جاء ثلاثة رَهْطٍ إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته؛ فلما أُخْبِروا كأنهم تَقَالُّوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له من ذنبه ما تقدّم وما تأخر.
فقال أحدهم: أمّا أنا فإني أُصلِّي الليل أبدا.
وقال آخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر: أمّا أنا فأعتزل النساء ولا أتزوّج أبدًا.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم للَّهِ وأتقاكم له لكنّي أصوم وأُفطر وأُصلي وأرقد وأتزوّج النساء فمن رغب عن سُنّتي فليس مني» وخَرّجا عن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان بن مظعون أن يتَبتّل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ولو أجاز له ذلك لاختصينا.